كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقول الملائكة ها هنا معهم تشريف لهم؛ لأنهم يحتاجون إلى مخاطبة القوم، وهم أحباؤنا في نسب المعرفة وخدامنا من حيث الحقيقة ألا ترى كيف سجدوا لأبينا.
{نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ في الْحَيَواةِ الدُّنْيَا} إلخ.
من بشاراتهم في الدنيا؛ أي: أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم بدل ما كانت الشياطين تفعل بالفكرة.
ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله وتأييده لهم بواسطة الملائكة.
قال جعفر رضي الله عنه: من لاحظ في أعماله الثواب والأغراض كانت الملائكة أولياءه، ومن عملها على مشاهدته تعالى، فهو وليه؛ لأنه يقول: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} (البقرة: 257).
{وَفِى الآخِرَةِ}: نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من التعادي والتخاصم.
وفي التأويلات النجمية: يشير إلى ولاية الرحمة للعوام وولاية النصرة للخواص وولاية المحبة لأخص الخواص فبولاية الرحمة للعوام في الحياة الدنيا يوفقهم لإقامة الشريعة.
وفي الآخرة يجازيهم بالجنة وبولاية النصرة للخواص في الحياة الدنيا يسلطهم على أعدى عدوهم، وهو نفسهم الأمارة بالسوء ليجعلوها مزكاة من اخلاقها الذميمة وأوصافها الدنيئة، وفي الآخرة بجذبة ارجعي إلى ربك، وبولاية المحبة لأخص الخواص في الحياة الدنيا يفتح عليهم أبواب المشاهدات والمكاشفات. وفي الآخرة يجعلهم من أهل القربات والمعاينات. ومن ولاية الله تعالى عفو الزلل، فإن الزلل لا يزاحم الأزل. ببرد العذر عندي لك مبسوط والذنب على مثلك محطوط.
{وَلَكُمْ} لا لغيركم من الأعداء.
{فِيهَا}؛ أي: في الآخرة.
{مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ} من فنون اللذائذ.
{وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} ما تتمنون.
افتعال من الدعاء بمعنى الطلب، وهو أعم من الأول إذ لا يلزم أن يكون كل مطلوب مشتهى كالفضائل العلمية، وإن كان الأول أعم أيضًا من وجه بحسب حال الدنيا، فالمريض لا يزيد ما يشتهيه ويضر مرضه إلا أن يقال التمني أعم من الإرادة وعدم الاكتفاء بعطف ما تدعون على ما تشتهي بأن يقول، وما تدعون للإشباع في البشارة والإيذان باستقلال كل منهما.
{نُزُلا} رزقًا كائنًا.
{مِّنْ غَفُورٍ} للذنوب العظام مبدل للسيئات بالحسنات.
{رَّحِيمٍ} بالمؤمنين من أهل الطاعات بزيادة الدرجات والقربات قوله: نزلا حال مما تدعون؛ أي: من الموصول، أو من ضميره المحذوف؛ أي: ما تدعونه مفيدة، لكون ما يتمنونه بالنسبة إلى ما يعطون من عظائم الأمور كالنزل، وهو ما يهيأ للنزيل؛ أي: الضيف من الرزق؛ كأنه قيل: وثبت لكم فيها الذي تدعونه حال كونه كالنزل للضيف، وأما أصل كرامتكم، فمما لا يخطر ببالكم فضلًا عن الاشتهاء، أو التمني.
وفي التأويلات النجمية نزلًا؛ أي: فضلًا وعطاء وتقدمة لما سيدوم إلى الأزل من فنون الأعطاف وأصناف الألطاف.
وذلك لأن عطاء الله تعالى يتجدد في كل آن خصوصًا لأهل الاستقامة من أكامل الإنسان ويظهر في كل وقت وموطن ما لم يظهر قبله وفي غيره ويكون ما في الماضي كالنزل لما يظهر في الحال، ومن هنا قالوا: ما ازداد القوم شربًا إلا ازدادوا عطشًا.
وذلك لأنه لا نهاية للسير إلى الله في الدنيا والآخرة.
وفيه إشارة إلى أن بعض الناس لا نصيب له من العشق والذوق والتجلي ويومه ينقضي بالهموم وتطول حسرته، ولذلك كان يوم القيامة خمسين ألف سنة.
قال ابن الفارض في آخر القصيدة الخمرية:
على نفسه قليبك من ضاع عمره ** وليس له منها نصيب ولا سهم

ومن الناس من له نصيب من هذا الأمر لكن لا على وجه الكمال، ومنهم من لم يحصل له الري أصلًا، وهو حال الكمال.
حكي أن يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه: كتب إلى أبي يزيد البسطامي قدس سره سكرت من كثرة ما شربت من كأس حبه فكتب إليه أبو يزيد:
شربت الحب كأسًا بعد كأس ** فما نفد الشراب ولا رويت

أشار إلى أن حصول الري إنما هو للضعفاء، وأما الأقوياء، فإنهم يقولون: هل من مزيد ولو شربوا سبعة أبحر جعلنا الله، وإياك هكذا من فضله.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
{وَمِنْ} استفهام.والمعنى بالفارسية وكيست. {أَحْسَنُ} نيكوتر {قَوْلا}: از جهت سخن.
{مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ}؛ أي: إلى توحيده وطاعته.
{وَعَمِلَ صَالِحًا} فيما بينه وبين ربه.
{وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ابتهاجًا بأنه منهم، أو اتخاذًا للإسلام دينًا ونحلة إذ لا يقبل طاعة بغير دين الإسلام من قولهم هذا قول فلان؛ أي: مذهبه لا أنه تكلم بذلك.
وفيه رد على من يقول: أنا مسلم إن شاء الله، فإنه تعالى قال مطلقًا غير مقيد بشرط إن شاء الله.
وقال علماء الكلام: إن قاله للشك، فهو كفر لا محالة، وإن كان للتأدب مع الله وإحالة الأمور إلى مشيئة الله أو للشك في العاقبة والمآل لا في الآن.
والحال وللتبرك بذكر الله، أو التبري من تزكية نفسه والإعجاب بحاله، فجائز، لكن الأولى تركه لما أنه يوهم الشك وحكم الآية عام لكل من جمع ما فيها من الخصال الحميدة التي هي الدعوة والعمل والقول، وإن نزلت في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو في أصحابه رضي الله عنهم، أو في المؤذنين؛ فإنهم يدعون الناس إلى الصلاة.
فإن قلت السورة بكاملها مكية بلا خلاف الآذان إنما شرع بالمدينة.
قلت: يجعل من باب ما تأخر حكمه عن نزوله، وكم من القرآن منه، وإليه ذهب بعض الحفاظ كابن حجر وغيره.
اعلم أن للدعوة مراتب، الأولى: دعوة الأنبياء عليهم السلام، فإنهم يدعون إلى الله بالمعجزات والبراهين وبالسيف.
وفي التأويلات النجمية: تشير الآية إلى أن أحسن قول قاله الأنبياء والأولياء قولهم بدعوة الخلق إلى الله، وكان عليه السلام مخصوصًا بهذه الدعوة كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (الأحزاب: 45 -46)، وهو أن يكتفي بالله من الله لم يطلب منه غيره.
وقال {وعمل صالحًا} أي: كما يدعو الخلق إلى الله يأتي بما يدعوهم إليه يعني: سلكوا طريق الله إلى أن وصلوا إلى الله وصولًا بلا اتصال ولا انفصال فبسلوكهم ومناراتهم عرفوا الطريق إلى الله، ثم دعوا بعد ما عرفوا الطريق إليه الخلق إلى الله.
{وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لحكمه الراضين بقضائه وتقديره.
والمرتبة الثانية: دعوة العلماء؛ فإنهم يدعون إلى الله تعالى بالحجج والبراهين فقط.
ثم إن العلماء ثلاثة أقسام: عالم بالله غير عالم بأمر الله وعالم بأمر الله غير عالم بالله وعالم بالله وبأمر الله.
أما الأول: فهو عبد استولت المعرفة الإلهية على قلبه، فصار مستغرقًا في مشاهدة الجلال وصفات الكبرياء، فلا يتفرغ لتعلم علم الأحكام إلا قدر ما لابد له.
وأما الثاني: فهم الذين عرفوا الحلال والحرام ودقائق الأحكام، ولكنهم لا يعرفون أسرار جلال الله وجماله.
أما مع الإقرار بأصحاب هذا الشأن، أو بإنكارهم.
والثاني: ليس من عداد العلماء، وأما العالم بالله وبأحكامه، فهم الجامعون لفضائل القسمين الأولين، وهم تارة مع الله بالحب والإرادة وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجعوا إلى الخلق صاروا معهم كواحد منهم؛ كأنهم لا يعرفون الله وإذا خلوا مع ربهم صاروا مشتغلين بذكره؛ كأنهم لا يعرفون الخلق.
وهذا سبيل المرسلين والصديقين، فالعارف يدعو الخلق إلى الله ويذكر لهم شمائل القدم ويعرفهم صفات الحق وجلال ذاته، ويحبب الله في قلوبهم، ثم يقول بعد كماله وتمكينه إنني واحد من المسلمين من تواضعه ولطف حاله:
والمرتبة الثالثة: الدعوة بالسيف، وهي للملوك؛ فإنهم يجاهدون الكفار حتى يدخلون في دين الله وطاعته، فالعلماء خلف الأنبياء في عالم الأرواح والملوك خلف الأنبياء في عالم الأجسام.
والمرتبة الرابعة: دعوة المؤذنين إلى الصلاة، وهي أضعف مراتب الدعوة إلى الله، وذلك أن ذكر كلمات الأذان، وإن كان دعوة إلى الصلاة لكنهم يذكرون تلك الألفاظ الشريفة بحيث لا يحيطون بمعناها، ولا يقصدون الدعوة إلى الله، فإذا لم يلتفتوا إلى مال الوقف وراعوا شرائط الأذان ظاهرًا وباطنًا وقصدوا بذلك مقصدًا صحيحًا، كانوا كغيرهم من أهل الدعوة.
وقال: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.
وفي الحديث: «الملك في قريش والقضاء للأنصار والأذان للحبشة».
وفيه مدح لبلال الحبشي رضي الله عنه.
وكذا في الآية تعظيم لشأنه خصوصًا؛ لأنه مؤذن الداعي إلى الله على بصيرة، وهو المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم.
قال عمر رضي الله عنه: لو كنت مؤذنًا ما باليت أن لا أحج ولا أجاهد ولا أعتمر بعد حجة الإسلام.
صاحب كشف الأسرار: فرموده كه حق جل وعلا مؤذنان امت احمد بنج كرامت كرد.
حسن الثناء وكمال العطاء ومقارنة الشهداء ومرافقة الأنبياء والخلاص من دار الشقاء.
وفي الخبر: «من كثرت ذنوبه، فليؤذن بالأسحار» عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والذي بعث بالحق محمدًا أن النصارى إذا ضربت نواقيسها في أديارها فيثقل العرش على مناكب حملة العرش، فيتوقعون المؤذنين من أمتي، فإذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر.
خف العرش على مناكب حملة العرش.
قال الإمام السيوطي رحمه الله: أول ما حدث التسبيح بالأسحار على المنابر في زمن موسى عليه السلام حين كان بالتيه واستمر بعده إلى أن كان زمن داود عليه السلام وبنى بيت المقدس فرتب فيه عدة يقومون بذلك البيت على الآلات وبغيره بلا آلات من الثلث الأخير من الليل إلى الفجر إلى أن خرب بيت المقدس بعد قتل يحيى عليه السلام.
وقام اليهود على عيسى عليه السلام، فبطل ذلك في جملة ما بطل من شرائع بني إسرائيل.
وأما في هذه الملة المحمدية، فكان ابتداء عمله بمصر.
وسببه أن مسلمة بن مخلد الصحابي رضي الله عنه بني، وهو أمير مصر منارًا بجامع عمرو واعتكف فيه، فسمع أصوات النواقيس عالية، فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين، فقال إني أمد الأذان من نصف الليل إلى قرب الفجر؛ فإنهم لا ينقسون إذا أذنت، ففعل ثم لما كان أحمد بن طولون رتب جماعة نوبًا يكبرون ويسبحون ويحمدون ويقولون قصائد زهدية، وجعل لهم أرزاقًا واسعة، ومن ثمة اتخذ الناس قيام المؤذنين في الليل على المنابر، فلما ولي السلطان صلاح الدين بن أيوب أمر المؤذنين في وقت التسبيح أن يعلنوا بذكر العقيدة الأشعرية، فواظب المؤذنون على ذكرها كل ليلة إلى وقتنا هذا، انتهى.
يقول الفقير: آل الأمر في زمننا هذا في بلاد الروم إلى أن السلاطين من ضعف حالهم في الدين صاروا مغلوبين، فانتقل كثير من البلاد الإسلامية إلى أهل الحرب، فجعلوا المساجد كنائس والمنارات مواضع النواقيس، ولما كان الناس على دين ملوكهم صار الأمر في البلاد الباقية في أيدي المسلمين إلى الوهن والهدم، بحيث تخربت بعض المحلات بالكلية مع المساجد الواقعة فيها، وتعطل بعضها عن العمار من المسلمين بسبب توطن أهل الذمة فيها، وبقيت المساجد بينهم غريبة، فتعالوا نبك على غربة هذا الدين، وأما كمال العطاء، فما روي أن النبي عليه السلام قال: «المؤذنون أمناء المؤمنين على صلاتهم وصيامهم ولحومهم ودمائهم لا يسألون الله شيئًا إلا أعطاهم، ولا يشفعون بشيء إلا شفعوا فيه».
قال: «ويغفر للمؤذن مدى صوته».
ويشهد له كل شيء سمع صوته من شجر أو حجر، أو مدر أو رطب، أو يابس، ويكتب للمؤذن بكل إنسان صلى معه في ذلك المسجد مثل حسناته، وأما مقارنة الشهداء، فما روي أن النبي عليه السلام قال: «من أذن في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا جمع بينه وبين الشهداء في الجنة» وأما مرافقة الأنبياء، فما روي: أن رجلًا جاء إلى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله من أول الناس دخولًا للجنة، قال: «الأنبياء» قال: ثم من؟، قال: «الشهداء» قال: ثم من؟ قال: «مؤذنوا مسجدي هذا قال: ثم من؟ قال: سائر المؤذنين على قدر أعمالهم».
وقال عليه السلام: «من أذن عشرين سنة متوالية أسكنه الله تعالى مع إبراهيم عليه السلام في الجنة وأما الخلاص من دار الأشقياء».
فما روي أن النبي عليه السلام قال: «إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر أغلقت أبواب النيران السبعة»، وإذا قال: «أشهد أن لا إله إلا الله فتحت أبواب الجنة الثمانية، وإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله أشرفت عليه الحور العين».
وإذا قال: «حي على الصلاة تدلت ثمار الجنة، وإذا قال: حي على الفلاح قالت الملائكة أفلحت وأفلح من أجابك، وإذا قال: الله أكبر الله أكبر، قالت الملائكة: كبرت كبيرًا وعظمت عظيمًا، وإذا قال: لا إله إلا الله قال الله تعالى: حرمت بدنك وبدن من أجابك على النار».
وفي الحديث: «المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة»؛ أي: يكونون سادات وأكثر الناس ثوابًا، أو جماعات، أو رجاء؛ لأن من رجا شيئًا أطال إليه عنقه، والناس حين يكونون في الكرب يكون المؤذنون أكثر رجاء بأن يؤذن لهم في دخول الجنة كان ذلك جزاء مد أعناقهم عند رفع أصواتهم، أو طول العنق كناية عن الفرح كما أن خضوعها كناية عن الحزن، أو معناه إذا وصل العرق إلى أفواه الناس يوم القيامة طالت أعناق المؤذنين في الحقيقة لئلا ينالهم ذلك، ومن أجاب دعوة المؤذنين يكون معه.